مأساة الأرياف الجزائرية: أطفال يموتون تحت عجلات آبائهم
تشهد الأرياف الجزائرية مآسي متكررة تحصد أرواح الأطفال الصغار تحت عجلات المركبات والجرارات الفلاحية، في حوادث مؤلمة تترك وراءها جراحا نفسية لا تندمل وآباء محاصرين بعقدة ذنب قاتلة.
فاجعة جديدة بولاية غليزان
شهدت بلدية يلل بولاية غليزان يوم الجمعة الماضي فاجعة جديدة، حين فارق طفل في الخامسة من عمره الحياة تحت عجلات شاحنة والده بدوار الحسايسية. كان الأب يحاول الرجوع إلى الخلف في مشهد مألوف بالأرياف حيث تختلط ساحات المنازل بمواقف المركبات وأماكن لعب الأطفال.
لحظات قليلة كانت كافية لوقوع الكارثة، ليتحول الأب في ثوان من معيل لأسرته إلى رجل يطارده مشهد ابنه المهشم، في صدمة تتجاوز حدود الفقد إلى مأساة نفسية مركبة.
سلسلة حوادث مماثلة بسطيف
لم تكن فاجعة يلل سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الحوادث المتشابهة. ببلدية قلال بسطيف، لقي رضيع لم يتجاوز العامين حتفه تحت عجلات شاحنة والده من نوع "رونو سافيام" بمنطقة ملول، بينما كان الأب يستعد للذهاب إلى عمله.
وببلدية عين الحجر، تكرر المشهد ذاته عند غروب الشمس بمشتة لعناية، حين كان الوالد يخرج شاحنته من المرآب راجعا إلى الخلف، فيما كان رضيعه يلعب بالقرب منه. لحظة غفلة واحدة، مرت العجلات فوق جسد الطفل النحيف.
كما شهدت بلدية البلاعة شرق سطيف حادثة مماثلة، حين دهس أب ابنه البالغ من العمر سنتين بواسطة جرار فلاحي أثناء رجوعه إلى الخلف بالمنطقة المسماة الدهس.
صدمة نفسية لا تشفيها الأيام
في القرى، لا تروى هذه الحوادث كأخبار عابرة، بل كحكايات موجعة تتناقلها المجالس. يقول أحد سكان الريف ببلدية قلال: "كل بيت هنا يخاف هذه اللحظة. الشاحنة أو الجرار جزء من حياتنا اليومية، والأطفال يلعبون حولها منذ صغرهم".
يشير مختصون في علم النفس الإكلينيكي إلى أن الآباء الذين يتسببون خطأً في مقتل أبنائهم يعيشون صدمة مركبة تجمع بين الفقد والإحساس القاتل بالذنب. هذه الصدمة قد تتحول إلى اكتئاب حاد، اضطرابات نوم، نوبات هلع، وفي حالات عديدة إلى عزلة اجتماعية طويلة الأمد.
ظاهرة مرتبطة بطبيعة الحياة الريفية
مختصون في علم الاجتماع يرون أن هذه المآسي نتيجة مباشرة لبنية الحياة الريفية في الجزائر، حيث يختلط فضاء السكن بفضاء العمل في غياب أي تنظيم عمراني وقائي. الشاحنة أو الجرار لا يُنظر إليهما كوسيلة خطرة، بل كأداة رزق يومية.
الثقافة السائدة تقوم على الاعتياد، حيث يتحول الخطر المتكرر إلى مشهد عادي لا يثير القلق، إلى أن تقع الفاجعة. هذا الاعتياد، مضافا إلى غياب التوعية المستمرة، يجعل الأسر تقلل من احتمالات الخطر.
دعوات للوقاية والحذر
الرائد أحمد لعمامرة، المكلف بالإعلام لدى مصالح الحماية المدنية بولاية سطيف، يؤكد: "في كل مرة ننبه أصحاب الشاحنات عبر بيانات رسمية إلى خطورة الرجوع إلى الخلف من دون التأكد من خلو المحيط".
وينصح بعدم السماح للأطفال باللعب قرب الشاحنات أو الجرارات، حتى وإن كانت متوقفة، وضرورة تخصيص مكان آمن للأطفال بعيدا عن فضاء العمل، مهما كانت بساطته.
كما يوصي بالاستعانة بشخص مرافق عند الإمكان لتوجيه السائق أثناء الرجوع إلى الخلف، وتركيب منبهات صوتية ومرايا إضافية، مع تفادي تحريك المركبة في أوقات ضعف الرؤية.
ضرورة مقاربة شاملة
يحذر مختصون من أن تكرار هذه الحوادث من دون مقاربة شاملة قد يحولها إلى قدر اجتماعي صامت، في ظل غياب برامج مرافقة نفسية للضحايا، وافتقار القرى لحملات تحسيس ميدانية مستمرة.
هذه المآسي تستدعي تحركا جماعيا يحمي الأرواح البريئة، قبل أن تلتحف الغفلة بثوب المأساة، وبقائمة طويلة من الضحايا الأبرياء.