التدين المجاني ومحنة غزة: دروس من صمود الشعب الفلسطيني
في الأيام الماضية، وخلال موجة البرد التي مرت بنا، لبسنا من أثخن ثيابنا، وأوينا إلى بيوتنا حيث المدافئ والفراش اللين والطعام الدافئ. وحتى عندما كنا ندخل إلى أماكن عملنا، كنا نجدها دافئة، وكذلك كنا نصلي في مساجد مفروشة دافئة.
في تلك الأيام، كان إخواننا في قطاع العزة غزة يعيشون محنة قل نظيرها في هذا العالم، يكابدون البرد القارس في خيام لا تدفئ من برد ولا تقي من مطر. اجتمع عليهم الجوع والبرد والخوف من غدر الصهاينة الذين خرقوا اتفاق وقف إطلاق النار أكثر من 500 مرة.
صور المعاناة والصمود
رأينا بأعيننا صور الأمهات وهن يبكين أمام تلك الخيام الممزقة التي تحولت إلى برك من الماء، ورأينا صور الأطفال الذين يذرفون دموع الحسرة والأسى وهم يجلسون وسط أفرشة مبللة تزيد من معاناتهم.
أما أمتهم المسلمة فهي عندما سمعت بوقف إطلاق النار في العاشر من أكتوبر الماضي، ظنت أن محنة غزة قد انتهت، لكن الحقيقة أن المحنة لا تزال متطاولة. لا تزال آلاف الأسر في مناطق مختلفة تعاني الجوع حيث لم تصلها المساعدات، ولا تزال آلاف الأسر تأوي إلى خيام بالية لا ترد برد الشتاء.
لا تزال مناطق كثيرة من القطاع تتعرض للقصف الصهيوني الهمجي. أهل غزة يعانون والأمة كلها ستسأل عنهم، كما تسأل وتحاسب عن رجالها وأسودها من جند المقاومة المحاصرين في غزة الآن.
خذلان الأمة ونقض العهود
بعد أن نقض الصهاينة عهدهم، واستغلوا تواطؤ الأمة على خذلان المرابطين، ليحاصروهم. الأمة أطبقت على خذلان المرابطين، وضغطت عليهم ليسلموا أسلحتهم، والصهاينة الآن يحاصرون جند الأمة ويمنعون عنهم الطعام والشراب.
من كان يتوقع أن نصل إلى هذا الدرك من اللامبالاة والخذلان؟ من كان يتوقع أن تطبق الأمة على خذلان رجالها وأبطالها ومن يدافعون عن أقصاها وأرضها المقدسة؟
الطائفة المنصورة وإحدى الحسنين
عزاؤنا في المرابطين أنهم، بإذن الله، الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خذلها أو خالفها. وعزاؤنا في أهل غزة أنهم مهما بلغت الفتنة التي يعيشونها والمحنة التي يمرون بها فإنما هي فتنة في دنياهم الفانية.
زلزلوا فيها كما زلزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قيل لهم: "إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل". وقريباً ينال أهل غزة إحدى الحسنين: النصر أو الشهادة.
فتنة الدين أعظم من فتنة الدنيا
إخواننا في غزة يبتلون في دنياهم، لكن دينهم، بفضل الله، قد سلم، وهم بين شهيد سعيد، وجريح أو مبتلى بالجوع والبرد والتشريد صابر محتسب راض عن ربه يرجو رضوانه.
لكن ماذا عنا؟ فتنتنا أعظم من فتنتهم! فتنتهم في دنياهم، وفتنتنا في ديننا. التبس علينا ديننا، وما عدنا نعرف الحق من الباطل! وما عدنا نعرف أين نضع أرجلنا ولا أي طريق نسلك!
علامات الحق في زمن الفتن
والله الحق سبحانه قد جعل للحق علامات بينة يعرف بها في كل زمان ومكان. لعلنا نشير إلى علامتين فارقتين منها:
أولهما: تواطؤ أهل الباطل والفساد على حربه. الحق لا يترك أبداً، الحق محارب في كل زمان ومكان، لأن هناك بشراً ينغص عليهم الحق حياتهم فلا يحبون أن يروه أو يسمعوا به.
الأمارة الثانية: أن أهله يمتحنون ويزلزلون. قال تعالى: "الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين".
التدين المجاني ومشكلة العصر
مشكلتنا في هذا الزمان أننا نريد أن نعرف الحق وننتسب إليه ونموت عليه ونحن الذين لا نريد أن ينقص شيء من دنيانا ولا نحب أن نمس في أبداننا وأموالنا وأهلينا!
ولذلك انتشر بين المسلمين ما يسميه بعض الدعاة "الإسلام المجاني"، وهو رغبة المسلم في أن يكون تدينه من دون كلفة يتحملها ومن دون ضريبة يدفعها!
نريد أن نعرف الحق ونكون من أهله وندخل جنة الفردوس من دون أن ندفع الضريبة! من دون أن نبتلى في أنفسنا وأموالنا وأهلينا! وهذا محال.
تأثير الثقافة العلمانية
الثقافة العلمانية ربت الجيل الجديد من المسلمين على أن يتدين تديناً وردياً معزولاً عن قضايا الدين والأمة، يختار المتدين به من تكاليف الإسلام أيسرها وأخفها على نفسه، ويبتعد كل البعد عن كل تكليف يمكن أن يدخله في صراع مع الباطل.
وربما تجده يتحايل على التكاليف التي تتعلق بنصرة الحق ومدافعة الباطل، ويطعن في كل قضية يرى أن نصرتها ستجلب له المتاعب!
الجنة سلعة الله الغالية
مصيبة أن يرضخ عبد يؤمن بالله واليوم الآخر لنفسه وشيطانه، ويرتضي تديناً مجانياً وردياً لا يكلفه جهاد عدو ولا حتى جهاد نفس، في زمن بلغ فيه التدافع بين الحق والباطل مداه!
التدين المجاني لن يعيد لأمتنا عزها، ولن يرد لنا فلسطين ولا الأقصى، ولن يبلغنا جنة كتبها الله لعباده الذين يجاهدون أنفسهم وواقعهم ويصبرون على ما يصيبهم في سبيل الله.
الجنة هي سلعة الله الغالية التي لا بد لها من ثمن.