خليل فرح.. شاعر الوطنية السودانية ووصيته الخالدة
ليس خليل فرح شاعراً عابراً في سجل الغناء والشعر السوداني، ولا مجرد صوت وجداني تألم ورحل مبكراً، بل هو واحد من الأعمدة المؤسسة للوعي الوطني الحديث، ومن ذلك الجيل من المتعلمين والمثقفين السودانيين الذين تخرجوا في كلية غردون، وحملوا على عواتقهم أعباء النهضة السودانية.
نشأة في منعطف تاريخي حساس
وُلد خليل فرح في قرية دبروسة بمنطقة حلفا عام 1894م، أي في السنوات الأخيرة لدولة المهدية التي استقل فيها السودان لمدة ثلاثة عشر عاماً، قبل أن تسقط عام 1898م. وبذلك، فإن وعي الخليل تشكل في منعطف تاريخي بالغ الحساسية: بين ذاكرة دولة وطنية سقطت، وواقع احتلال إنجليزي فرض نفسه على البلاد.
هذا التمزق المبكر بين حلم السيادة وواقع القهر سيظل حاضراً في شعره، ظاهراً تارة، ومتخفياً في الرمز تارات أخرى. نال الخليل جزءاً من تعليمه في الخلوة بجزيرة صاي، ثم في الكُتاب بمدينة دنقلا، قبل أن ينتقل إلى أم درمان حيث كان يقيم أهل أبيه.
التكوين الأكاديمي والنضالي
التحق بكلية غردون، وتخرج فيها مهندساً ميكانيكياً، ثم عمل بعد تخرجه في مصلحة البوستة والتلغراف، وهي مهنة ليست بعيدة عن رمزيته كشاعر حمل هم الاتصال بين الناس، وربط الأطراف، وبث الرسائل في زمن الانقطاع.
في عام 1923م، تزوج الخليل من السيدة سلامة آغا إبراهيم، أرملة شقيقه بدرى، وذلك في جزيرة صاي، وأنجب منها فرح وعائشة. غير أن حياته العائلية، على بساطتها، لم تحجبه عن انخراطه العميق في الشأن العام، فقد كان من رواد ثورة 1924م، ومن المؤسسين لجمعية اللواء الأبيض.
قصيدة الوداع والوصية الوطنية
في هذا السياق التاريخي والإنساني، تُقرأ قصيدته الشهيرة "ما هو عارف قدمو المفارق" التي كتبها وهو يعاني من داء الصدر. قصيدة لا يمكن اختزالها في كونها شكوى مريض أو حنين مغترب، بل هي نص وداعي مركب، ينعي فيه الشاعر جسده، ويُثبت فيه الوطن بوصفه القيمة العليا.
منذ المطلع، نلحظ حالة من الدهشة الوجودية الممزوجة بالتسليم: "ماهو عارف قدمه المفارق.. يا محط آمالي السلام". الذات هنا لا تعرف أن قدمها مفارِقة، أي أن الفراق حدث دون وعي كامل، وكأن الموت تسلل على مهل.
تجسيد الوطن في أبهى صوره
يبلغ خليل فرح أقصى ما يمكن أن يصور حالته النفسية بأبهى وأجمل الصور، إذ يقول: "في سموم الصيف لاح له بارق.. لم يزل يرتاد المشارق". يجمع خليل فرح بين حر القيظ ولمعان البارق، في مفارقة مقصودة، فالصيف هنا ليس فصلاً، بل حالاً قاسياً من الاختناق واليباس.
ثم يبلغ المعنى ذروته في قوله: "كان مع الأحباب نجمه شارق.. ماله والأفلاك في ظلام". فالنجم الشارق رمز للمكانة، والوضوح، والهداية، أي أن الشاعر كان في محيطه مصدر ضوء وألفة ومعنى.
أم درمان.. المدينة الحبيبة
المقطع التالي من أبهى ما قال خليل فرح في تجسيد الوطن بوصفه كائناً حياً نابضاً بالجمال والنظام والبهجة: "مسرح الغزلان في الحدايق.. والشوارع الغر والمضايق". فهو لا يصف عمراناً، بل يرسم مشهداً جمالياً حياً.
ثم يخاطب المدينة مباشرة: "قول لي كيف أمسيت دمت رايق.. دام بهاك مشمول بالنظام". إنه خطاب العاشق الذي يسأل محبوبه عن حاله، لكنه في العمق سؤال مواطن عن سلامة وطنه.
الاعتداد بالتاريخ المجيد
وبالقصيدة ثمة اعتداد وطني صريح، وفيه يخرج خليل فرح من الرمز الموارب إلى التسمية الواضحة، ومن الحنين العاطفي إلى التاريخ بوصفه سنداً للكرامة. يقول: "في يمين النيل حيث سابق.. كنا فوق أعراف السوامق.. الضريح الفاح طيبه عابق.. السلام يا المهدي الإمام".
المكان هنا ليس مجرد جهة جغرافية، بل مسرح ذاكرة وطنية. فيمين النيل تحيل إلى أم درمان بوصفها مركزاً تاريخياً وروحياً، ومنها انطلقت الدولة المهدية، ومنها تشكلت إحدى أولى تجارب السيادة الوطنية في السودان الحديث.
التسامي الأخلاقي والوطني
وحين يقول: "الحبايب لفتوا الخلايق.. بيني وبينهم قطعوا العلايق"، فهو يسجل واقعة إنسانية مؤلمة: عزلة المريض وخوف الناس من العدوى. لكنه، في العمق، يلامس عزلة المناضل والمثقف الذي يُساء فهمه ويُحاصَر حضوره.
غير أن العظمة تكمن في أنه لا يُحول ذلك إلى خطاب كراهية أو اتهام، بل يتسامى أخلاقياً قائلاً: "إن دلال إن تيه كله لايق.. نحن ما ملينا الخصام". هنا تتجلى نزاهة الروح الوطنية، فالوطن عند الخليل لا يُبنى بالثأر، بل بالتسامح.
الختام المؤثر والوصية الخالدة
عند ختام القصيدة نقف على أصفى ما فيها بوحاً وإيماناً بالمصير، وفيه يبلغ خليل فرح درجة عالية من الصفاء. يقول: "ما يئسنا الخير عوده سايق.. الحي يعود إن أتى دونه عايق". فالخير هنا ليس حالة طارئة، بل قوة دافعة، سايقة بذاتها، لا تحتاج إلى استعطاف.
ويأتي الختام الجامع: "السلام يا وطني السلام". وهنا لا يكون السلام تحية فحسب، بل دعاء، ووصية، وخاتمة حياة. سلام يقال لمن يُخشى عليه، ويُرجى له، ويُسلم إليه القلب كاملاً.
إرث خالد رغم العمر القصير
رحل خليل فرح وعمره لم يتجاوز العقد الرابع، لكنه ترك إرثاً يتجاوز الأعمار الطويلة. فقد أثبت أن القيمة لا تُقاس بعدد السنين، بل بكثافة المعنى، وأن الشاعر الحق هو من يذوب في وطنه حتى يصير صوته جزءاً من ضميره الجمعي.
ومن هنا، فإن إنصاف خليل فرح ليس استعادة لذكرى شاعر جميل فحسب، بل هو حفظ لركن أصيل من أركان الوعي السوداني الحديث، وإيمان بأن ما قدمه هذا الرجل، في عمر قصير وجسد عليل، يظل جديراً بالصون والنقل، ليبقى حاضراً في ذاكرة الأجيال القادمة، مثالاً للتفاني النبيل في حب الأوطان.